فلسطين- اختبار العدالة العالمية وحتمية تغيير النظام الكوني

يشهد العالم اليوم مأساة مشابهة لما مر به سابقًا، وكأن التاريخ يعيد نفسه بصورة محزنة. هذا الأمر يذكرنا بمقولة ألبرت أينشتاين الشهيرة: "الغباء هو أن تفعل نفس الشيء بنفس الطريقة وتتوقع نتائج مختلفة". فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام 1919، اجتمع الحلفاء المنتصرون، وهم إنجلترا وفرنسا وإيطاليا واليابان، ووقعوا معاهدة فرساي في باريس، وأعلنوا عن تأسيس عصبة الأمم. كان الهدف الأساسي من هذه العصبة، كما يتجلى بوضوح في ميثاقها الذي يتضمن 26 مادة، هو نشر السلام وتجنب تكرار المآسي التي شهدتها الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى ضمان الأمن المشترك وتسوية الخلافات بين الدول عبر الحوار والدبلوماسية.
اعتمدت عصبة الأمم في عملها على مجلس تنفيذي مكون من الدول الكبرى، باستثناء الولايات المتحدة. في البداية، تألف المجلس من الأعضاء الأربعة الدائمين: بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا واليابان. وفي عام 1926، انضمت ألمانيا، التي كانت قد هُزمت في الحرب، كعضو دائم في المجلس، ولكنها انسحبت مع اليابان في العام نفسه.
لكن، وبكل أسف، فشلت عصبة الأمم فشلاً ذريعًا في تحقيق الأهداف التي تأسست من أجلها. وفي 20 أبريل/نيسان 1946، أُعلن عن نهايتها بعد أن تجلى عجزها الكامل عن حل المشكلات الدولية أو فرض احترامها على الدول. لم تستطع العصبة أن تمنع اليابان من غزو منشوريا، ولا إيطاليا من غزو إثيوبيا، والأهم من ذلك أنها لم تتمكن من منع اندلاع الحرب العالمية الثانية المدمرة.
وبعد حرب عالمية أخرى دامية، اجتمع منتصرون جدد في مدينة سان فرانسيسكو في 26 يونيو/حزيران 1945. قام هؤلاء المنتصرون بصياغة رؤاهم ومصالحهم ووضعوها حيز التنفيذ العملي المؤسسي مرة أخرى، وذلك بهدف ضمان عدم تكرار الفظائع والأهوال التي شهدها العالم خلال الحرب العالمية الثانية. تلك الحرب التي أودت بحياة ما يقارب 40 مليون مدني و20 مليون جندي، نصفهم تقريبًا من الاتحاد السوفياتي. كان الهدف الأسمى هو الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وتعزيز التعاون بين جميع دول العالم. تبنى المجتمعون ميثاق الأمم المتحدة، وحرصوا على تجنب ذكر كلمة "الحرب" في أي من بنوده، بهدف وضع أسس جديدة لحكم العالم في صورته الجديدة.
ولكن، من المفارقات التي أصبحت حقيقة مأساوية متكررة، أن هؤلاء المنتصرين الذين بشروا بالحرية والإنسانية ووضعوا القواعد الجديدة للعالم في ميثاق وقانون دولي وعلاقات دولية، كانوا هم أنفسهم الذين، في يوم التوقيع على ميثاق المنظمة الوليدة في 26 يونيو/حزيران 1945 في سان فرانسيسكو، يحتلون نصف العالم، ويعيثون فسادًا في الجزائر والهند وفيتنام وفلسطين وغيرها الكثير من بقاع الأرض. مارسوا القتل والاستغلال والإفقار على نطاق واسع. وبذلك، حوّلوا ذلك الميثاق، منذ ولادته وحتى يومنا هذا، إلى أداة من أدوات الاستعمار الحديث، تحمي مصالحهم وتدافع عنها بمنتهى الوقاحة في معظم الأحيان.
إن جريمة الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة وباقي الأراضي الفلسطينية تكشف بجلاء هذا الخلل العميق في النظام العالمي، وهي ليست وليدة اللحظة. فمن الجدير بالذكر أن عدد الشهداء الذين قتلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة قد تجاوز، حتى وقت كتابة هذا المقال، 38 ألف فلسطيني، حوالي 75٪ منهم من الأطفال والنساء. بالإضافة إلى ذلك، هناك أكثر من 80 ألف جريح، وتم إبادة عائلات بأكملها بعد قصف المنازل على رؤوس ساكنيها. وقد تم تدمير ما يقارب 80٪ من أحياء غزة ومساكنها، ونزح تسعة من كل عشرة أشخاص في غزة من منازلهم أكثر من مرة.
يشير تقرير صادر عن مجلة "لانست" الطبية البريطانية الموثوقة، والذي نُشر قبل أيام، إلى أن عدد الوفيات المتوقع في غزة حتى أغسطس/آب القادم، سواء نتيجة القتل المباشر على يد قوات الاحتلال أو بشكل غير مباشر بسبب التجويع ومنع وصول الأدوية، وتدمير المرافق الطبية ومحطات الصرف الصحي ومحطات مياه الشرب، وتراكم آلاف الأطنان من القمامة، وانتشار الأوبئة، سيصل إلى 186 ألف شخص، أي ما نسبته 8٪ من السكان. هذا الرقم يعادل 27 مليونًا و349 ألف أمريكي، أو 5 ملايين و437 ألف بريطاني، أو 6 ملايين و660 ألف مواطن ألماني.
كل هذه الفظائع تحدث على مرأى ومسمع من العالم المتحضر، المنتصر في الحرب العالمية الثانية، الذي تعهد بعدم تكرار الإبادة أو الحروب. بل إن عدم وقف إطلاق النار حتى اليوم، يعني في الواقع إعطاء دولة الاحتلال ضوءًا أخضر ومزيدًا من الوقت للمضي قدمًا في جريمتها، في زمن ومكان يُقاس فيه الوقت بجثث الأطفال وكؤوس الماء وحبات الدواء المفقودة.
هذا الاستعلاء العنصري الدولي لم يقف صامتًا فقط على الجرائم المرتكبة في الجنوب بحق الدول والشعوب والجماعات العرقية والثقافية، بل تلطخت كل مكوناته بدماء الأبرياء عندما شارك مباشرة في ارتكاب الإبادات الجماعية، أو سهل ارتكابها في رواندا وسربرنيتسا، وقبل ذلك بحق اليهود في أوروبا.
كما تم ارتكاب أبشع انتهاكات القانون الدولي وجرائم الحرب في كوريا وفيتنام والعراق وأفغانستان ولبنان وبنما وكوبا. هذا الانحطاط الذي يمس حضارة تدعي الإنسانية والعدالة والعقلانية، يستوجب تغيير النظام العالمي إلى نظام أكثر عدلاً، يوفر للجميع مكانًا تحت الشمس. نظام قائم على التوازن والمبادئ وصيانة السلم العالمي، وتعزيز التعاون الدولي بين أنداد أكْفاء وليس بين سادة وعبيد، بين ثقافات مختلفة ومتنوعة تثري الحياة البشرية والوجود الإنساني، وليس بين ثقافات خيرة وأخرى شريرة تؤسس لصراعات خطيرة زائفة ولكنها وجودية.
ليست هذه الحقيقة مجرد يوتوبيا حالمة أو خطابًا غاضبًا أو انفعاليًا، بل هي جوهر المشكلة وأصل الحكاية، مهما حاولوا تجميل قبح أفعالهم.
إن عدم تطبيق قواعد العدالة والمحاسبة يؤكد ليس فقط ازدواجية المعايير والمصالح المتضاربة، بل يكشف أيضًا عن سقوط ذلك المقدس الذي وضعه المنتصرون وحكموا به العالم، والذي أصبح أضعف وأعجز من أن يوقف نزيف الدم والإبادة والظلم والاستغلال في فلسطين وفي معظم أنحاء العالم. فالحرب كشفت عن كل ذلك، وأظهرت أن القانون الدولي مُعدٌّ لبعض الجماعات وليس للجميع.
إن ما يحدث في فلسطين يضع مصداقية النظام الكوني للعدالة على المحك، في اختبار حقيقي وأخير لقدرته على الاقتراب من العدالة المغيبة في فلسطين، وتفعيل مبدأ المحاسبة، وضمان أن من أمر ونفذ الجرائم المتلاحقة في فلسطين سيخضع للمساءلة.
إن تغييب العدالة في فلسطين يهدد الأمن والسلم الدوليين على نحو خطير، ويشكل ترخيصًا جديدًا للتضحية بالمظلومين والمستضعفين المحميين بموجب قواعد القانون الدولي. هؤلاء الذين يتملكهم شعور دائم بأن العدالة في خصام أبدي معهم، بدليل عدم اقترابها منهم ولو بمقدار ضئيل، على الرغم من فظاعة الجريمة وبشاعتها وتكرار ارتكابها ونقلها مباشرة عبر الحدود وفروق التوقيت.
هذا النظام الآفل هو نفسه الذي يمنح الدول الخمس في مجلس أمن الأمم المتحدة، منذ 79 عامًا، حقًا قانونيًا ومطلقًا في التحكم في مصير العالم، في الخير والشر، السلم والحرب. ويحرم دولًا ذات وزن حضاري وبشري وإسهام ملحوظ في الاستقرار والسلم والتعاون الدولي، وتمثل ثقلًا جغرافيًا وتاريخيًا، مثل الهند ومصر والبرازيل على سبيل المثال، من العضوية الدائمة فيه، وبالتالي من المساهمة بدور فعال في صيانة وحفظ الأمن والسلم الدوليين.
إن هذا النظام المتهالك يحرم العالم المتغير والمتنوع من حقه في السعي نحو عالم أكثر عدلاً وتوازنًا وعقلانية، تحكمه علاقات متكافئة تؤسس لسلام وتعاون دولي حقيقي، قائم على رفض الحروب والاحتلالات والاستغلال، وعلى احترام كرامة البشر وحقوق الإنسان والعدالة.
إنه ذات النظام العالمي الذي يواصل إنتاج تلك المصالح التي أنتجت كل ويلات ومآسي البشرية، وسيستمر في التحلل من القواعد القانونية والأخلاقية، ويهدد بشكل خطير الاستقرار والسلام الدوليين، كما هو الحال الآن. وبالتالي، تصبح القضية الكونية محصورة في خيارات بالغة الخطورة: إما العدالة للجميع أو قانون الغاب، وإما التعاون القائم على التكافؤ والمساواة واحترام السيادة وحق تقرير المصير، أو الاستعلاء العنصري والثقافي والظلم والاستغلال.
لا بد من التوقف عن دفن الرؤوس في الرمال وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، وذلك بالنظر إلى الفجور الذي وصلت إليه الأوضاع في فلسطين، حيث يتعرض الشعب الفلسطيني لأبشع الجرائم على الإطلاق، وهي الإبادة الجماعية، في ظل مؤامرة من أولئك الذين يهيمنون على العالم ومجلس أمن الأمم المتحدة، أو في أحسن الأحوال، صمت مطبق يشكل بحد ذاته ضوءًا أخضر للقتل.
لقد قام برنارد لويس بتقسيم العالم إلى ثقافة عليا، وهي ثقافة الغرب التي أنتجت الحضارة والعقلانية، وثقافة أدنى، وهي الإسلامية الشرقية، التي تنتج الإرهاب والدمار والتخلف. وهذا يعني أنها عبء على أولئك الذين يستحقون الحياة، أي المتحضرين التنويريين العقلانيين. هذا التقسيم ينزع عن هذه الثقافة (الإسلامية الشرقية) وعن منتسبيها، شيوخًا وشبابًا ونساءً وأطفالًا، كل الصفات الإنسانية، ليصبحوا مجرد "فائض بشري" و"عبء إنساني". وهذا يفسر السلوك المتوحش والمتواطئ للغرب إزاء الجرائم المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، بمختلف أطيافه الأنجلوسكسونية أو الفرنكوفونية وما بينهما.
إن ما يحدث في فلسطين هو اغتيال سافر للحقيقة. وكما يقول الفيلسوف أحمد برقاوي، فإن من يغتال الحقيقة يعلم أنها الحقيقة، ولكنه ينكرها أو يزيفها أو يخترع حقيقة مناقضة لا وجود لها أصلًا. بمعنى آخر، يتم خلق تصورات تتضمن تمثيلات وعناصر واقعية لحقيقة زائفة، أي صناعة منظمة ومدركة وواعية للكذب وإعادة إنتاجه وتعميمه، وخلق جمهور ومؤيدين ومنظرين له.
إن الخطر الأكبر في اغتيال الحقيقة يكمن في تبريرها الأيديولوجي للإبادة الجماعية وكل الجرائم المرتكبة في فلسطين، في عزلة عن كل ما هو مشترك إنساني.
وخلاصة القول، إن ما بدا أنه ثابت بعد الحرب العالمية الثانية من قواعد قانونية وأخلاقية، تلك القواعد التي حكمتها المصالح واحتكار القرار وتقسيم العالم وهندسسته لجعله خاضعًا وتابعًا، لم تحافظ على أمن ولا على سلام، بل ساهمت في انتشار الحروب والجرائم والمجاعات والفقر والعنصرية بصورة غير مسبوقة في تاريخ البشرية. بل إن هذا الوضع يضع العالم بأسره أمام بوادر حرب عالمية شاملة لا ترحم أحد، مما يستوجب إنشاء نظام كوني أكثر عدلاً لعالم تغير كثيرًا بعد مرور 79 عامًا على تلك الحرب.